الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: سيرة ابن هشام المسمى بـ «السيرة النبوية» **
قال ابن إسحاق : ثم إن قصي بن كلاب هلك ، فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده ، فاختطوا مكة رباعا - بعد الذي كان قطع لقومه بها - فكانوا يقطعونها في قومهم وفي غيرهم من حلفائهم ويبيعونها ؛ فأقامت على ذلك قريش معهم ليس بينهم اختلاف ولا تنازع ، ثم إن بني عبد مناف بن قصي عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبدالدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبدالدار ، من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة ، ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم ؛ فتفرقت عند ذلك قريش ، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم حق به من بني عبدالدار لمكانهم في قومهم ، وكانت طائفة مع بني عبدالدار ، يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصي جعل إليهم . فكان صاحب أمر بني عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف ، وذلك أنه كان أسن بني عبد مناف ، وكان صاحب أمر بني عبدالدار عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار . فكان بنو أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وبنو زهرة بن كلاب ، وبنو تيم بن مرة بن كعب ، وبنو الحارث بن فهر بن مالك بن النضر ، مع بني عبد مناف . وكان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة ، وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ، وبنو عدي بن كعب ، مع بني عبدالدار ، وخرجت عامر بن لؤي ومحارب بن فهر ، فلم يكونوا مع واحد من الفريقين . فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ، ولا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحر صوفة . فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا . فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف ، أخرجتها لهم ، فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة ، ثم غمس القوم أيديهم فيها ، فتعاقدوا وتعهدوا هم وحلفاؤهم ، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم ، فسموا المطيبين . وتعاقد بنو عبدالدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا ، على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا ، فسموا الأحلاف . ثم سوند بين القبائل ، ولُزّ بعضها ببعض ؛ فعبيت بنو عبد مناف لبني سهم ، وعبِّيت بنو أسد لبني عبدالدار ، وعبيت زهرة لبني جمح ، وعبيت بنو تيم لبني مخزوم ، وعبيت بنو الحارث بن فهر لبني عدي بن كعب . ثم قالوا : لتُفن كل قبيلة من أُسند إليها . فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح ، على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة ، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبدالدار كما كانت . ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك ، وتحاجز الناس عن الحرب ، وثبت كل قوم مع من حالفوا ، فلم يزالوا على ذلك ، حتى جاء الله تعالى بالإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ) . قال ابن هشام : وأما حلف الفضول فحدثني زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق قال : تداعت قبائل من قريش إلى حلف ، فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ، لشرفه وسنه ، فكان حلفهم عنده : بنو هاشم ، وبنو المطلب ، وأسد بن عبدالعزى ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة . فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه ، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته ، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول . حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبدالله بن عوف الزهري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت . الحسين يهدد الوليد بالدعوة إلى إحياء الحلف قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهادي الليثي أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه : أنه كان بين الحسين بن على بن أبي طالب رضي الله عنهما ، وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - والوليد يومئذ أمير على المدينة أمره عليها عمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه - منازعة في مال كان بينهما بذي المروة . فكان الوليد تحامل على الحسين رضي الله عنه في حقه لسلطانه ، فقال له الحسين : أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لآخذن سيفي ، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لأدعون بحلف الفضول . قال : فقال عبدالله بن الزبير ، وهو عند الوليد حين قال الحسين رضي الله عنه ما قال : وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ، ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا . قال : فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري ، فقال مثل ذلك وبلغت عبدالرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك . فلما بلغ ذلك الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي . سأل عبدالملك محمد بن جبير عن عبد شمس و بني نوفل و دخولهما في حلف الفضول ، فأخبره بخروج بني عبد شمس وبني نوفل من الحلف قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهادي الليثي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال : قدم محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف - وكان محمد بن جبير أعلم قريش - فدخل على عبدالملك بن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير ، واجتمع الناس على عبدالملك ، فلما دخل عليه قال له : يا أبا سعيد ، ألم نكن نحن وأنتم ، يعني بني عبد شمس بن عبد مناف ، وبني نوفل بن عبد مناف في حلف الفضول ؟ قال : أنت أعلم ؛ قال عبدالملك : لتخبرني يا أبا سعيد بالحق من ذلك ؛ فقال : لا والله ، لقد خرجنا نحن وأنتم منه ! قال : صدقت . تم خبر حلف الفضول قال ابن إسحاق : فولى الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف ، وذلك أن عبد شمس كان رجلا سفارا قلما يقيم بمكة ، وكان مقلا ذا ولد ، وكان هاشم موسرا فكان - فيما يزعمون - إذا حضر الحاج قام في قريش فقال : ( يا معشر قريش ، إنكم جيران الله وأهل بيته ، وإنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله وحجاج بيته ، وهم ضيف الله ، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه ، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعاما أيامهم هذه التي لا بد لهم من الإقامة بها ، فإنه والله لو كان مالي يسع لذلك ما كلفتكموه ) . فيخرجون لذلك خرجا من أموالهم ، كل امرئ يقدر ما عنده ، فيصنع به للحجاج طعاما حتى يصدروا منها . وكان هاشم فيما يزعمون أول من سن الرحلتين لقريش : رحلتي الشتاء والصيف . وأول من أطعم الثريد للحجاج بمكة ، وإنما كان اسمه عمرا ؛ فما سمي هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه . فقال شاعر من قريش أو من بعض العرب : عمرو الذي هشم الثريد لقومه * قوم بمكة مسنتين عجافِ سُنت إليه الرحلتان كلاهما * سفر الشتاء ورحلة الإيلاف قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم بالشعر من أهل الحجاز : قوم بمكة مسنتين عجاف * قال ابن إسحاق : ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزة من أرض الشام تاجرا ، فولي السقاية والرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف ، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم ، وكان ذا شرف في قومه وفضل ، وكانت قريش إنما تسميه الفيض لسماحته وفضله . وكان هاشم بن عبد مناف قدم المدينة فتزوج سلمى بنت عمرو أحد بني عدي بن النجار ، وكانت قبله عند أحيحه بن الجلاح بن الحريش . قال ابن هشام : ويقال : الحريس - ابن جَحْجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس . فولدت له عمرو بن أحيحة ، وكانت لا تنكح الرجال لشرفها في قومها حتى يشترطوا لها أن أمرها بيدها ، إذا كرهت رجلا فارقته . فولدت لهاشم عبدالمطلب ، فسمته شيبة . فتركه هاشم عندها حتى كان وصيفا أو فوق ذلك ، ثم خرج إليه عمه المطلب ليقبضه فيلحقه ببلده وقومه ؛ فقالت له سلمى : لست بمرسلته معك ؛ فقال لها المطلب : إني غير منصرف حتى أخرج به معي ، إن ابن أخي قد بلغ ، وهو غريب في غير قومه ، ونحن أهل بيت شرف في قومنا ، نلي كثير من أمورهم ، وقومه وبلده وعشيرته خير له من الإقامة في غيرهم ، أو كما قال . وقال شيبة لعمه المطلب - فيما يزعمون - : لست بمفارقها إلا أن تأذن لي ، فأذنت له ، ودفعته إليه ؛ فاحتمله فدخل به مكة مردفه معه على بعيره ، فقالت قريش : عبدالمطلب ابتاعه ، فبها سمي شيبة عبدالمطلب . فقال المطلب : ويحكم ! إنما هو ابن أخي هاشم ، قدمت به من المدينة . ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن ، فقال رجل من العرب يبكيه : قد ظمئ الحجيج بعد المطلبْ * بعد الجفان والشراب المنثغب ليت قريشا بعده على نصب * مطرود يبكي المطلب وبني عبد مناف وقال مطرود بن كعب الخزاعي ، يبكي المطلب وبني عبد مناف جميعا حين أتاه نعى نوفل بن عبد مناف ، وكان نوفل آخرهم هُلكا : يا ليلة هيجت ليلاتي * إحدى ليالي القسيات وما أقاسي من هموم وما * عالجت من رزء المنيات إذا تذكرت أخي نوفلا * ذكَّرني بالأوليات ذكرني بالأُزُر الحمر والْ أردية * الصفر القشيبات أربعة كلهمُ سيد * أبناء سادات لسادات ميْت بردمان وميت بسلمان * وميت عند غزات وميت أسكن لحدا لدى الْ محجوب * شرقي البنيات أخلصهم عبد مناف فهم * من لوم من لام بمنجاة إن المغيرات وأبناءها * من خير أحياء وأموت وكان اسم عبد مناف المغيرة ، وكان أول بني عبد مناف هلكا هاشم ، بغزة من أرض الشام ، ثم عبد شمس بمكة ؛ ثم المطلب بردمان من أرض اليمن ثم نوفلا بسلمان من ناحية العراق . شعر آخر لمطرود فقيل لمطرود - فيما يزعمون - : لقد قلت فأحسنت ،ولو كان أفحل مما قلت كان أحسن ؛ فقال : أنظروني ليالي ، فمكث أياما ، ثم قال : يا عين جودي وأذري الدمع وانهمري وابكي على السر من كعب المغيرات يا عين واسحنفري بالدمع واحتفلي * وابكي خبيئة نفسي في الملمات وابكي على كل فياض أخي ثقة * ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات محض الضريبة عالي الهم مختلق * جلد النجيزة ناء بالعظيمات صعب البديهة لا نكس ولا وكل * ماضي العزيمة متلاف الكريمات صقر توسط من كعب إذا نسبوا * بحبوحة المجد والشم الرفيعات ثم اندبي الفيض والفياض مطلبا * واستخرطي بعد فيضات بجمات أمسى بردمان عنا اليوم مغتربا * يا لهف نفسي عليه بين أموات وابكي لك الويل ، إما كنت باكية * لعبد شمس بشرقي البنيات وهاشم في ضريح وسط بلقعة * تسفي الرياح عليه بين غزات ونوفل كان دون القوم خالصتي * أمسى بسلمان في رمس بموماة لم ألق مثلهم عجما ولا عربا * إذا استقلت بهم أدم المطيات أمست ديارهم منهم معطلة * وقد يكونون زينا في السريات أفناهم الدهر أم كلت سيوفهم * أم كل من عاش أزواد المنيات أصبحت أرضى من الأقوام بعدهم * بسط الوجوه وإلقاء التحيات يا عين فابكي أبا الشعث الشجيات * يبكينه حسرا مثل البليات يبكين أكرم من يمشي على قدم * يعولنه بدموع بعد عبرات يبكين شخصا طويل الباع ذا فجر * آبي الهضيمة فراج الجليلات يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه * سمح السجية بسام العشيات يبكينه مستكينات على حزن * يا طول ذلك من حزن وعولات يبكين لما جلاهن الزمان له * خضر الخدود كأمثال الحميات محتزمات على أوساطهن لما * جر الزمان من أحداث المصيبات أبيت ليلي أراعي النجم من ألم * أبكي وتبكي معي شجوي بنياتي ما في القروم لهم عدل ولا خطر * ولا لمن تركوا شروى بقبات أبناؤهم خير أبناء وأنفسهم * خير النفوس لدى جهد الأليات كم وهبوا من طمر سابح أرن * ومن طمرة نهب في طمرات ومن سيوف من الهندي مخلصة * ومن رماح كأشطان الركيات ومن توابع مما يفضلون بها * عند المسائل من بذل العطيات فلو حسبت وأحصى الحاسبون معي * لم أقض أفعالهم تلك الهنيات هم المدلون إما معشر فخروا * عند الفخار بأنساب نقيات زين البيوت التي خلوا مساكنها * فأصبحت منهم وحشا خليات أقول والعين لا ترقا مدامعها * لا يبعد الله أصحاب الرزيات قال ابن هشام : الفجر : العطاء . قال أبو خراش الهذلي : عجَّف أضيافي جميل بن معمر * بذي فجر تأوي إليه الأرامل قال ابن إسحاق : أبو الشعث الشجيات : هاشم بن عبد مناف . قال : ثم ولي عبدالمطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب ، فأقامها للناس ، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم ، وشرف في قومه شرفا لم يبلغه أحد من آبائه ، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم . ثم إن عبدالمطلب بينما هو نائم في الحجر إذ أتي فأمر بحفر زمزم . قال ابن إسحاق : وكان أول ما ابتدىء به عبدالمطلب من حفرها ، كما حدثني يزيد بن أبي حبيب المصري عن مرثد بن عبدالله اليزني عن عبدالله بن زرير الغافقي : أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يحدث حديث زمزم حين أمر عبدالمطلب بحفرها ، قال : قال عبدالمطلب : إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت فقال : احفر طيبة ، قال :قلت : وما طيبة ؟ قال : ثم ذهب عني . فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال : احفر برة . قال :فقلت : وما برة ؟ قال : ثم ذهب عني ، فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال : احفر المضنونة . فقال : فقلت : وما المضنونة ؟ قال : ثم ذهب عني . فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه ، فجاءني فقال : احفر زمزم . قال : قلت : وما زمزم ؟ قال : لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم ، وهي بين الفرث والدم ، عند نقرة الغراب الأعصم ، عند قرية النمل . قال ابن إسحاق : فلما بين له شأنها ، ودل على موضعها ، وعرف أنه قد صدق ، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث بن عبدالمطلب ، ليس له يومئذ ولد غيره ، فحفر فيها . فلما بدا لعبدالمطلب الطي كبر . فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته ، فقاموا إليه فقالوا : يا عبدالمطلب ، إنها بئر أبينا إسماعيل ، وإن لنا فيها حقا فأشركنا معك فيها ؛ قال : ما أنا بفاعل ، إن هذا الأمر قد خصصت به دونكم ، وأعطيته من بينكم ؛ فقالوا له : فأنصفنا فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها ؛قال : فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم أحاكمكم إليه ؛ قالوا : كاهنة بني سعد بن هذيم ؛ قال : نعم ؛ قال : وكانت بأشراف الشام . فركب عبدالمطلب ومعه نفر من بني أبيه من بني عبد مناف ، وركب من كل قبيلة من قريش نفر . قال : والأرض إذ ذاك مفاوز . قال : فخرجوا حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام ، فني ماء عبدالمطلب وأصحابه ، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة ، فاستسقوا من معهم من قبائل قريش ، فأبوا عليهم ، وقالوا : إنا بمفازة ، ونحن نخشى على أنفسنا مثل ما أصابكم . فلما رأى عبدالمطلب ما صنع القوم وما يتخوف على نفسه وأصحابه ، قال : ماذا ترون ؟ قالوا : ما رأينا إلا تبع لرأيك ، فمرنا بما شئت ؛ قال : فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم حفرته لنفسه بما بكم الآن من القوة ، فكلما مات رجل دفعه أصحابه في حفرته ثم واروه ، حتى يكون آخركم رجلا واحدا ، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب جميعا ؛ قالوا : نعم ما أمرت به . فقام كل واحد منهم فحفر حفرته ، ثم قعدوا ينتظرون الموت عطشا ؛ ثم إن عبدالمطلب قال لأصحابه : والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت ، لا نضرب في الأرض ولا نبتغي لأنفسنا ، لعجز ، فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض البلاد ، ارتحلوا ، فارتحلوا . حتى إذا فرغوا ، ومن معهم من قبائل قريش ينظرون إليهم ما هم فاعلون ، تقدم عبدالمطلب إلى راحلته فركبها . فلما انبعثت به ، انفجرت من تحت خفها عين ماء عذب ، فكبر عبدالمطلب وكبر أصحابه ، ثم نزل فشرب وشرب أصحابه واستقوا حتى ملئوا أسقيتهم ، ثم دعا القبائل من قريش ، فقال : هلم إلى الماء ، فقد سقانا الله ، فاشربوا واستقوا . ثم قالوا : قد والله قضى لك علينا يا عبدالمطلب ، والله لا نخاصمك في زمزم أبدا ، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشدا . فرجع ورجعوا معه ، ولم يصلوا إلى الكاهنة ، وخلوا بينه وبينها . قال ابن إسحاق : فهذا الذي بلغني من حديث على بن أبي طالب رضي الله عنه في زمزم ، وقد سمعت من يحدث عن عبدالمطلب أنه قيل له حين أمر بحفر زمزم : ثم ادع بالماء الروي غير الكدر * يسقي حجيج الله في كل مبرْ ليس يخاف منه شيء ما عمر * فخرج عبدالمطلب ، حين قيل له ذلك ، إلى قريش ، فقال : تعلموا أني قد أمرت أن أحفر لكم زمزم ؛ فقالوا : فهل بين بي لك أين هي ؟ قال : لا ؛ قالوا : فارجع إلى مضجعك الذي رأيت فيه ما رأيت ، فإن يك حقا من الله يبين لك ، وإن يكن من الشيطان فلن يعود إليك . فرجع عبدالمطلب إلى مضجعه فنام فيه ، فأتي فقيل له : احفر زمزم ، إنك إن حفرتها لم تندم ، وهي تراث من أبيك الأعظم ، لا تنزف أبدا ولا تذم ، تسقي الحجيج الأعظم ، مثل نعام حافل لم يقسم ، ينذر فيها ناذر لمنعم ، تكون ميراثا وعقدا محكم ، ليست كبعض ما قد تعلم ، وهي بين الفرث والدم . قال ابن هشام : هذا الكلام والكلام الذي قبله ، من حديث علي - رضوان الله عليه - في حفر زمزم من قوله : ( لا تنزف أبدا ولا تذم ) إلى قوله : ( عند قرية النمل ) عندنا سجع وليس شعرا . قال ابن إسحاق : فزعموا أنه حين قيل له ذلك ، قال : وأين هي ؟ قيل له : عند قرية النمل ، حيث ينقر الغراب غدا . والله أعلم أي ذلك كان . فغدا عبدالمطلب ومعه ابنه الحارث ، وليس له يومئذ ولد غيره ، فوجد قرية النمل ، ووجد الغراب ينقر عندها بين الوثنين : إساف ونائلة ، اللذين كانت قريش تنحر عندهما ذبائحها . فجاء بالمعول وقام ليحفر حيث أمر ، فقامت إليه قريش حين رأوا جده ، فقالوا : والله لا نتركك تحفر بين وثنينا هذين اللذين ننحر عندهما ؛ فقال عبدالمطلب لابنه الحارث : ذد عني حتى أحفر ، فوالله لأمضين لما أمرت به . فلما عرفوا أنه غير نازع ، خلوا بينه وبين الحفر ، وكفوا عنه ، فلم يحفر إلا يسيرا ، حتى بدا له الطي ، فكبر وعرفوا أنه قد صدق . فلما تمادى به الحفر وجد فيها غزالين من ذهب ، وهما الغزالان اللذان دفنت جرهم فيها حين خرجت من مكة ، ووجد فيها أسيافا قلعية وأدراعا ؛ فقالت له قريش : يا عبدالمطلب ، لنا معك في هذا شرك وحق ؛ قال : لا ، ولكن هلم إلى أمر نصف بيني وبينكم : نضرب عليها بالقداح ؛ قالوا : وكيف تصنع ؟ قال : أجعل للكعبة قدحين ، ولي قدحين ، ولكم قدحين ، فمن خرج له قدحاه على شيء كان له ، ومن تخلف قدحاه فلا شيء له ؛ قالوا : أنصفت . فجعل قدحين أصفرين للكعبة ، وقدحين أسودين لعبدالمطلب ، وقدحين أبيضين لقريش ؛ ثم أعطوا القداح صاحب القداح الذي يضرب بها عند هبل ( وهبل : صنم في جوف الكعبة ، وهو أعظم أصنامهم ، وهو الذي يعني أبو سفيان بن حرب يوم أحد حين قال : أعل هبل : أي أظهر دينك ) وقام عبدالمطلب يدعو الله عز وجل ، فضرب صاحب القداح القداح ، فخرج الأصفران على الغزالين للكعبة ، وخرج الأسودان على الأسياف ، والأدراع لعبدالمطلب ، وتخلف قدحا قريش . فضرب عبدالمطلب الأسياف بابا للكعبة ، وضرب في الباب الغزالين من ذهب . فكان أول ذهب حليته الكعبة ، فيما يزعمون . ثم إن عبدالمطلب أقام سقاية زمزم للحجاج .
|